البيـــــــــلســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى تربوي يعنى بالأدب عموما والأدب العربي خصوصا ،يرعى المواهب الشابّةويهتم بالجانب الإرشادي التربوي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الحرب و البيادر

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
جمال الطرابلسي
Admin
جمال الطرابلسي


عدد المساهمات : 228
تاريخ التسجيل : 10/11/2010

الحرب و البيادر  Empty
مُساهمةموضوع: الحرب و البيادر    الحرب و البيادر  I_icon_minitimeالأحد فبراير 06, 2022 7:46 pm

الحرب والبيادر والدّروب

ثلاثية من الحياة


أنا رشا " رأس الجبل"
حارسةُ الغيم
ضفائري على الشًّعرى تمنحُ أناشيدَها للريح والغيوم وعطرَها للسنديان
رششتُ أبنائي على أرغفة السّفوح والسهول والدروب فغَدوا أبعد مما ترى عينُ رأسي
أنا العجوزُ اليافعة أبداً
أمالَ الأولادُ اسمي فقالوا: رشي
ثمّ مالوا عني إلى السهول
ومازال قلبي يحرسُ أحلامَهم
ويواري أوجاعَهم في نحيب الرياح.
حزيران 1967
عاد شفيق إليّ من المدينة بعدما أوقفت الحربُ الفحصَ ورمى بنفسه في الرّام بلّل قلبه وجسده وثيابه من مشقة الوصول إلى حُجري، ونام تحت التوتة الكبيرة نومة عميقة كأنّه يدرك أنها فرصة الراحة الوحيدة له هذا الصيف ولسان حاله يقول: اليوم رام وغدا قيام.
قيامٌ النهار وأطراف الليل، فالعمل صلاة أبنائي، كتبت عليهم في مواقيت مقدسة، فقبل مطلع الغزالة يغدون ولا يروحون حتى تتهاوى الشمس إلى مخدعها البحريّ خلف ظهري،

. البيادر

تدور البغلة و أدور خلفها منذ أيّام، عيناي تنوسان بين البيدر و(الدريخة )التي تقطّعها أسنان (الحيلان )، وبين ذيل الدّابة التي لا تفتأ تلطم به يمينا ويساراً على مؤخرة قائمتيها الخلفيتين ، بينما تتحكم يداي برأسها فأقودها عبر حبلتين تمتدان من طرفيّ (الرشمة ) المتقابلين وتمرّان عبر حلقتين متقابلتين (للكدانة )ثم إلى يديّ وكأنني أقود عربة من عربات الأساطير, ونستمرّ معا بالدوران ، كل شيء يدور وكل شيء بحسبان مرّ شهر ونصف مذ غادرنا حماة بعد تلك الليلة الغريبة في سيارة "علي حداد" العجيبة.
التغيّرات هنا - في البيادر- بطيئة وطقوس العمل والطعام والسهرات تخلق جواً ماتعاً من الألفة والتعاون لحراسة البيادر والموسم، لكنّ تلك الأشياء الجميلة لا تُذهبّ عنا الشعورَ بالتعب والشقاء المتأتي من اليقين بعدم جدوى كل هذا العمل مادياً، فالفقر والبؤس يسكنان بيوتنا وثيابنا ويعششان في قلوبنا.
تراودني دائماً فكرة أنّ أمّ جابر جارتنا حين تدعو على زوجها الذي تزوّج للمرة الثالثة ، كأنها كانت تدعو على الفلاحين جميعا كي لا يرزقهم الله ، وحين يدور بي الحيلان أتخيل أنني أدور حول رغيف الخبز تماما كما كانت تقول له :
_ إن شالله بتدور ع رغيف الخبز ما بتلاقيه، هو يركض ويدور وأنت تدور خلفه.
هنا على البيادر يجتمع أبناء رشي يتعاونون في كل شيء بحكم الحاجة وتبادل المنفعة، قليلا ما كان يأتي أبي لمساعدتي فقد غرق هو الآخر بأعمال حقل القطن من (تسكيب) وفتح (للسوالين) وتعشيب و(ركش).
كان يردد دائما:
لعنة الله على الحرب، عطّلت ولدي شفيق عن الفحص فلولاها لنجح ، وكان أول شخص ينجح التاسع من سنة واحدة .
وكلما ذكر ذلك فتح لي جرحا و رمى على صدري جمرة ، فاستذكار الفحص بات يصفع ذاكرتي التي تسربت منها كلّ المعلومات، لا أعرف ما يجري معي لم أعد قادرا على استرجاع شيء وإذا أعادوا لنا الامتحان سيكون الأمر كارثة لي وفاجعة لأبي وأمي .
ننام على البيادر و نحن أواخر تموز لقد انتهى الناس جميعا من درْس بيادرهم وبقيت أمامهم المراحل الأخيرة من تنتيج المحصول بالتذرية وفصل الحبوب عن التبن ثم فصل الحبوب عما بقي فيها من قش و تراب بالغربلة فيتحول المحصول إلى (صابور قمح ) و كومة (قصرين) و (تبن) و (عرّام) .
وتبقى مهمّة الغربلة و الصّنت للنساء .
قال جارنا أحمد الزير :
يا جماعة اليوم سيسهر صالح العبود معنا على البيدر، اعملوا همة شغل ليكون عندنا الوقت الكافي للسهر .
قبيل الغروب جاء صالح العبود ومعه فتى يافعٌ من قرية فقرو وجلسوا عند بيادر بيت اسمندر ، توقف العمل تماما على البيادر بمجيئهم و تجمع حولهم معظم الفلاحين الذين ينامون على بيادرهم ، وحين وصلت إلى العريش الخشبي الذي جلسوا تحته على بساطة نول قديمة وراح صالح العبود يقصّ بأسلوبه المشوّق حكايات الحرب :
- أول شيء يا جماعة الخير الله يعطيكم العافية والقوّة، أعرف أنكم لم تقصّروا بالعمل، لكن يحتمل أن تندلع الحرب من جديد والبيادر تصبح في خطر فالأمر يحتاج همّة أكبر
فيردّ الزير:
- كلّ البيادر مدروسة، وننتظر أن تهدأ الريح، أنت قول الله وأسمعنا حكاياتك وان شاء الله يطيب الهوا بعد آخر الليل فنقوم (بالتذرية)
- والله يا جماعة الخير سأروي لكم قصتين جرتا معي واحدة في الحرب والثانية قبل الحرب
فقاطعه جارنا ابن حمرة:
- يا رجل أنت تخدم بالحرس القومي في حماة ما علاقتك بالحرب وهي أبعد من الشام .؟
- قال ما علاقتك بالحرب أنا بقلب الحرب ، خلص ما عاد أحكي !
صاح الجميع بصوت واحد :
- ابن حمرة لا تخرب السهرة ولا تحرمنا الحكاية
- خلص لن أخرب الحكاية
وبعد أن تدلل صالح العبود قليلا أقنعوه بأهمية أن يحكي ما جرى معه
ـ والله يا شباب سأحكي لكم ما جرى معي قبل الحرب
بينما كنت على الجبهة في نوبة حراسة، الله وكيل كانت المسافة بيني وبين اليهود يعني من (هون لآخر البيدر) وكنت أمام المحرس وفجأة يظهر قدامي ديب وديبة
يعلق ابن حمرة:
كيف عرفت الديب من الديبة ؟؟؟
فيثور صالح العبود من جديد :
- بطلت أحكي !!
- خلص أنا ذاهب احك على كيفك
غادر أحمد حمرة المكان نحو بيدره غاضبا يدمدم:
(كل حكاياته كدب في كدب ).
ويكمل الرجل تحت إلحاح الفلاحين.
- المهم يا جماعة صار الديب يلاطفني والديبة تحف حالها بساقي وأنا متعجب وصار الديب يتململ عند قدمي وكنت لابس (خوذة) حديد على رأسي (وبصطار) بقدمي ويدي على الزناد خوفا من الغدر.
- قوسهن ، ما قوستهن ؟ قال أخوه لأحمد حمرة
- ما معنا أمر، ما معنا أمر يا سبحان الله!!
- المهم يا سادة يا كرام صار الديب و الديبة كل يوم بنص الليل عندي و يتململ عند أقدامي ، وأنا مسرور ومستأنس وفجأة لمحت سحابا تحت باط الديبة
- بنص الليل ؟
- أي بنص الليل (ملتفتاً إلى عبدو حمرة)
- وهجمت بأخمص البارودة هربت الديبة ومسكت الديب و أخدته لعند رئيس الحرس ويطلع ضابط يهودي لابس لباس ديب ’ انبسط مني العقيد كتير وعطاني إجازة مفتوحة .
- يا لطيف الله حماك الحمدلله ع السلامة (قالها معظم الحاضرين )
- احكي لنا عن الحرب
- على راسي ثمّ عيني أمر، لكن رح نختصر وفؤاد رح يكمل السهرة ويغني من عتابات جده أسد فقرو .
والله يا جماعة الخير كنا أنا و الشباب عند جبل الشيخ مدة أسبوع لا أكل ولا شرب ولا نستطيع أن نظهر ولا نعرف ما يجري حولنا والدنيا نار بالنهار وبرد بالليل وفجأة طيارة لونها أسود صارت تحوم ونحن في خنادق الدفاع السلبي ولكثرة التحويم شافنا وبدأ فينا ضرب بالقنابل حتى عمانا عمي بعدين قلت لحالي ما رح يتركنا ابن ستين كلب حتى يقتلنا كلنا ، فقلبت رشاش (الدكتاروف )وسدّدت على الطيارة أمامها بخمس أمتار وصحت يا سيدي يا خضر أبو العباس وكبست على الزناد كبسة طويلة والنار شعلت بديلها وصاح قائد المجموعة الله محيي أصلك و الله يا شباب وقعت وراء الجبل و الدخنة عبت السما
والله يا شباب أخدت عليها مكافأة خمسين ليرة وكروز دخان نصر
صاح الجميع : حياك الله و الله محيي أصلك
وطيب الله عيشك و الحمد لله على السلامة .
هات يا عمي فؤاد سمعنا ؟؟
كان فؤاد يافعا جميل الإطلالة عذب الصوت انتشرت شهرته في الملزق الغربي بسرعة كبيرة وكان ينسب إلى قريته وإلى جدّه الشاعر والحكيم
غنّى فؤاد بصوت رخيم ألوان العتابا من غير موسيقا فأطرب ثم غنى النايل فأشجى القمر في تلك الليلة المبدرة
غرب البيادر نصب حبي تبلّاني
ويريد حُبّه غصب يا عمي ودمعات بكّاني.

يخت الملوك

لم أنم بعد تلك السهرة ، أيقظتْ حكايات الحرب وغناء الفتى كل جروحي فعادت هواجس الامتحان وهمومه التي رقدت أكثر من شهر، كنت أخشى العودة للامتحان قبل أن يتحوّلَ الموسم إلى نقود، ولم تفارقني تلك الليلة الحزيرانية حين دَهَمَت أصوات المضادات و الرشاشات العبثية سماء مدينة حماة قبيل العِشاء ثم غرقت المدينة في ظلام عميق وخوف أكثر عمقا وظلاما.
في الصباح التالي أخبرَنا طلابُ البكلوريا المقيمون معنا في فندق النزهة أن الامتحانات توقفت ولا أحدّ يعلم متى سنعود إليها .
حين أدار "علي حداد "محرك سيارته ارتجف قلبي الصغير بقوة لقد اهتزّت سيارة (الدوزيتو) يميناً ويسارً ثم إلى الأمام والخلف ، تأوّهتْ قليلا ثم تحركتْ ذاتَ الحركة ونفس الاهتزاز حين كنت أمتطي ظهر البغلة وهي جالسة بعد أن أستفزّها للوقوف فتنهض بحركة زلزالية .
للوهلة الأولى توهّمتُ أنّ موجة جديدة من قذائف المدفعية ورشقات الرشاشات عاودت اللطم على شطآن روحي الوجِلة التائهة، وكدتُ أفكر بالانبطاح ولكن أين؟.
خرجت السيارة من الخان القديم في ساحة الموقف ثم اختصرت الطريق من طرف حيّ الشيخ عنبر فموقف بيت الراس باتجاه المحطة وشردت غرباً ، وغيّرت مسارها بطلب من الجنود الذين منعوا السائق من العبور أمام بيت المحافظ ، كانت وجوه الجنود قلقةً رغم طول بنادقهم وضخامة خوذاتهم، وجوهٌ تثير الريبة و الخوف في قلوب سبعةَ عشرَ طالبا تكدّسوا بطريقة مذهلة في هذه السيارة الخرافية بمقاعدها الثلاثة ، أربعة بجانب السائق وخمسة في المقعد خلفه وخمسة في المقعد الخلفيّ وثلاثة فوق الشبك على ظهر السيارة مع الحقائب التنكية التي رُصفت بعناية وحزمت جيداً .
جسدي النحيل وقامتي القصيرة نفعاني في اختياري لأجلس في حضن زميلي وكنت رغم وصول رأسي لسقف السيارة أستطيع مراقبة الطريق ومشاهدة نوافذ البيوت والمحالج ومستودعات المحطة وقد طُلي زجاجُها بالأزرق.
بعد دقائق كانت أطراف الطريق تتحرك بسرعة واندفاع مخيف فأشحت عنها إلى البعيد حيث كلّ شيء هو الآخر يتحرك ويقترب
أخرج السائق رأسه من النافذة صارخا :
شيل مكسورتك عن البلور
ثم مدّ يده الطويلة حتى لامست قدما ًمتدلية فدفعها بقوة ثم ضحك وضحك الجميع
وسرحت السيارة بين السهول والتلال الملأى ب (حوابين )الشعير والقمح وأكداس العدس وأسراب (الحواصيد) وعربات الرّجاد.
وعند مفرق كفر الطون كانت مجموعة من رجال الشرطة يحملون بنادق طويلة ويقفون على الطريق، أشار كبيرهم بيده فتوقفت السيارة واقترب منها باحترام دنا من السائق وسأله:
- معك راكبٌ غريب؟
- لا لا سيادة الضابط هدول طلاب مدرسة تاسع وبكلوريا
اقترب الشرطيّ الضابط فلم يستطع مشاهدة كلّ الوجوه:
- أنزلهم جميعا
- ولكن يا سيادة الضابط
يقاطعه بشدة
- قلت لك أنزلهم
- ( موجها الكلام لنا ) قال السائق :يالله ياشباب انزلو وكل واحد يحفظ مكانه
نزل الجميع فامتلأ المكان بهم مما أثار الدهشة في قلوب الشرطة
- إذا استطعت أن تعيدهم بنفس الترتيب لن أخالفك بزيادة عدد الركاب
خلال دقيقتين فقط كان كل واحد منا في مكانه ويلتفت السائق إلى الضابط ملوّحا بيده وهو يقول: يخت ملوكي

شعر الجميع بالأمان كأنما الحرب ابتعدت وصارت خلفهم وبدأت الأحاديث الجانبية تعلو وملأ الصخب المكان الذي لم يعد يتسع للفتية وأصواتهم ولمّا جازت السيارة المتهالكة ظهرَ الجسر الحجري الهرم واعتلت تلة المجدل توقّفت ثم ترجل منها السائق وسحب الهوائيّ من رفراف مقدمتها الأيسر شدّه كما يشدّ الفلاح نبتة الشوفان من حقول القمح فبدا شيئا عجيبا حفز الجميع على الصمت و الترقّب ثم عاد وانطلق بالسيارة وفتح المذياع وحرّك المؤشر يمينا ويسارا متلافياً صفيرا وذبذبات عبثية حتى استقرّ على أغنية تصدح بصوت أنثوي :
(عبيلي الجعبة خرتوش وناولني هالبارودة بيكلفني خمس قروش البيقرب صوب حدودي ).
أخذ الحماس الرجل فخبط بيده على (التابلو ) صارخا :الله حيّو
فانقطع البثّ وساد الهرج والمرج بضع دقائق ثمّ خبط ثانية فعاد البثّ من جديد ولكن بصوت ذكوريّ:
ميراج طيّارك هرب مهزوم من نسر العرب.
ثم خبط ثالثة وقال بصوته الأجش: لعن الله الخيانة .
تداخلت الأصوات وتخدّرت بعض الأرجل وبعض الأكتاف من شدة الزحام، أما أنا فقد تخدرت رقبتي وتخدر تفكيري ولم تفارقني حالة الرّعب التي انتابتني وانتابت شركائي في فندق النزهة حين زعق زمور الخطر ليلة الأمس وأعقب ذلك إطلاق نار كثيف في السماء وانبطح الجميع بين الكراسي والأسرّة امتثالاً لصراخ صاحب الفندق، لازمني الارتياب وساورني القلق ولم تسعفني أغنية القروش الخمس ولا الميراج الهاربة.
كل شيء أمامي مجهولٌ وما زال مجهولا وما تركته خلفي أكثر غموضاً والأسئلة كثيرة (متى سنرجع لنكمل الامتحان ..؟؟) هل سيحتسبون لنا المواد التي قدمناها؟ هل صحيح أن كلّ الطلاب سينجحون كما قال أحد زملائي؟ ما الذي ينتظرني من عمل في الضيعة؟
لم أغب عن الضيعة طويلا هي أربعة أيام فقط وكل الأعمال الشاقة تنتظرني. ولكنّ أشدّ الأسئلة وجعا وحيرة السؤال عن الحرب و الذي جرى أمس.
حين نزل الفتيان من السيارة في سلحب وانتشروا حولها وراح كلّ واحد منهم يُصلح نفسه وهندامه فهذا يرفع يده ويهزّها وآخر يرفع ساقا ثم يهز الثانية وثالث يتمطّى رافعا كلتا يديه توقف سائق دراجة نارية من حير المسيل يعمل بالأجرة قربنا موجها حديثا ساخرا ومازحا لسائق السيارة:
-- ويلك من الله سيارة أم علبة سردين ؟؟!! ثم ضحك وضحكت كرش السائق على دفعات تشبه اهتزاز السيارة لحظة إقلاعها
-- لا و أنت الصادق هي (يخت ملوكي )
ثم أجال سائق الدراجة نظره بين الفتيان ليتصيد راكبا أو راكبين فوقع نظره عليّ وكنت أحرك رأسي يمينا ويسارا لأتخلص من الخدر في رقبتي:
شفيق ،شفيق الحمد لله على السلامة أمك ب سلحب من ساعة .
بحثت عنّ أميّ في السوق الصغير فوجدتها تخرج من أحد الدكاكين القريبة وقد امتقع وجهها بغضب وألم سرعان ما تهلل حين رأتني وأخذتني بين ذراعيها وحضنها الدافئ في تلك اللحظة بالذات حين دفنت وجهي لثوان في حضنها دفنت في ذات الحضن كل مخاوفي وأسئلتي التي أرهقتني طوال الطريق.
- لماذا كان وجهك غاضبا يا أمي
- ما حدا رضي يقرضني حق كيس طحين، قال في حرب، وإذا في حرب يعني العالم ما بدها تاكل وتشتغل ؟!، بعدين الحرب بعيدة كتير.
- أمي بقي معي سبع وعشرون ليرة ونصف فهل تكفي
- أي والله بتكفي وبتزيد، أنت ليش جيت ليش ما كفيت الفحص؟؟
- أوقفوا الفحص خوفا علينا من الحرب والغارات.

غادرنا سلحب على ظهر دراجة نارية وثبت بنا في الطريق السهلية وتسلقنا كتف الجبل إلى رشي ساعة كاملة من المشي صعودا نحو ضفائر الغيم وبي شوق للارتماء في الرامة الحبيبة .

سنديانة رشي

أنا رشي
بالألم ولدت أبنائي
حمّلتهم إثم مضاجعتي للسنديان
ضممت أضلاعه هنا فغارت جذوره في رحمي
وفي كل شتاء أغتسل بالمطر
أتطهّر بالثلوج
وتغتسل جباه أولادي بعرقّ الكدّ وأوجاع الشقاء.
24 كانون الأول 2021
رحلت خديجةُ اليوم متطهرة بالبرد، أنهت رحلتها الطويلة كطرفة عين
انغرست هنا في عمق التراب الأحمر وأصبحت مجرد فكرة في الذاكرة وقصيدة شعر.
في الأول من آب عام 1967
وقبل مطلع الشمس كانت خديجة وشفيق يهبطان إلى سلحب عبر الشّعب الجبليّ شديد الانحدار ومن جديد يحمل شفيق حقيبته التنكية المثقلة بكتبه وأشيائه ليعاود الفحص الذي توقف قبل شهرين.
يكدّان السير بصمت في هذا الخلاء الموحش شديد الرياح، رياح تلتفّ عليهم بين الأحراش وتعصف بكلّ شيء ، حتى الرياح هنا تدور في أجمات السنديان فتضمّ هاماتِها ثم تنفخ فيها فتتماوج متباعدة في ارتعاش فريد .
أمّ شفيق تتخيّل حوارا سيحصل مع أحد التجّار تستدين منه خمسا وعشرين ليرة ليأخذها شفيق إلى حماة فيرفض بحجة الحرب ثم تحاور آخر وآخر وكلّهم يرفضون وتتفلّت من فمها كلمة تائهة من المخيلة إلى شفتيها فينتبه شفيق ثم يتجاهل ويغرق هو في هواجسه وقلقه فيوم أمس فقط علم بأنّ الامتحان غدا والموسم مازال صابورَ حبوبٍ على البيدر، يوجعه المأزق الذي وضع أمّه فيه أكثر من نسيانه لمادة الديانة التي يفترِض أنها ستكون أول مادة لأنّ الامتحان توقف عندها إنّه يسير نحو المجهول بكل رهبة المجهول ورهبة الامتحان.
خديجة الحامل دخلت شهرها السابع فلم يقعدها ذلك عن صناعة وجه آخر للحياة غير الذي تبدعه الطبيعة وجه يتجلى بنجاح شفيق وسلوكه دروب العلم ليكون في حال أفضل من حال الفلاحين المتعبين، وحين وصلا العقيبة بعد ساعة من المسير اللجوج وقفت أم شفيق فجأة كمن تذكّر شيئا مهمّا:
- شفيق؟
- ياما ؟
- من جمعة عطيت خالك ليرتين ونص وما طلع من(رشي ) ارجع لرشي و اطلبها قلو بعتتني أمي .
- من أسبوع سيكون صرفها!!
- ما طلع من الضيعة يا ابني وما في دكان تيصرفها ! يالله يا سبع ناطرتك.
واقتربت إلى طرف الطريق وعبرت بين أشواك الدردار وأراحت جسدها المتعب بحملها على صخرة دهرية مرققة في حين قفل شفيق راجعا.
لم تكن أم شفيق قد تناولت طعاما ولم تحمل زادا أو ماء والدوار وإحساس التعب الذي بدأت تشعر به منذ أيام هو اليوم شديد جدا ولعل قعودها أشعرها به أكثر.
مرت عليها ساعتان حيث لا شجرة هنا تقيها سياط الشمس اللاهبة وحين تتقي الشمس بأن تدير لها ظهرها يكون عليها أن تصارع الريح الشديدة بوجهها لقد دارت على الصخرة كما تدور عقارب الدقائق في ميناء الساعة.
وما إن سمعت حفيف أقدام شفيق حتى نهضت وهي تسأله:
- عطاك المصاري؟
- أعطاني ليرتين ونصف
-الحرب جعلت قلوب الناس قاسية و (التجار) لا يعرفون الرحمة.
كانت تسرّ في نفسها بعدما رفض أبو حسين صاحب الدكان القابع قرب الطريق إقراضها مبلغ خمس وعشرين ليرة
وما كادت تخرج من الدكان حتى عبر (أبو غليون) بدراجته النارية فتوقف وأقلّهما إلى سلحب لتبدأ رحلة أخرى من استجداء أصحاب الدكاكين وكلهم ممن يستدين منهم أبناء القرى المجاورة ويسددون ذممهم في المواسم، عشرة دكاكين رفضوا إقراضها وهي تنتقل من دكان لآخر يتبعها شفيق حاملا كتبه وأحلامه في حقيبة تنكية.
لقد تطابق الأمر تماما مع ما كانت تتخيله من حديث معهم ورفضهم..
هذه المرة لم تتفلّت عبارة الشتيمة بل خرجت من فمها بكلّ ثقة.
- شفيق بدي أرجع لعند محمِّد دوحان, إذا ما عطاني مصاري ،روح أنت وبكرى ببعتلك مصاري بسيارة علي حداد .
سار خلفها ينقّل الخيبة والحقيبة من كتف إلى كتف وقد انتصف النهار.
كنتُ مرهقا محطم الأنفاس مندسّا في سيارة لسائق حموي عائد إلى المدينة بعد أن أوصل البريد ملتصقاً برجل يرتدي عباءة بدويّة وينفث دخان سيكارته في وجهي حتى تهيّأ لي أن رأسي مرميّة في فوهة (مفحمة) كبيرة
لكنّ ذلك كله لم يشغلني عن الفحمة المتجمّرة فوق قلبي، فالحزن والقلق تسرّبا إلى دمي حين دفعت أمي بالنقود التي أخذتها من محمد دوحان كلّها إلى يدي ولوّحت مودّعة بعدما أخفت ملامح وجهها بابتسامة كاذبة وطرف منديل مبلل بالدموع.
يا إلهي كيف لم يخطر لي أن أترك لها الليرتين ونصف كي تأكل (شعيبية )من السوق أو تستأجر دراجة توصلها لأقرب مكان إلى المسرب الجبليّ نحو رشي!!
كلّ الفنادق الشعبية ملأى ليس فيها متسع لجسد متهالك من المسير والسفر ووجع العوز حتّى أشفق صاحب فندق (النزهة) ففرش لي سريرا في أحد الممرات فرشتُ عليه كتبي ومع ذلك سهرت حتى راجعتُ كتاب الديانة كلّه إلى بعد منتصف الليل.
بعد انتهاء طلاب البكلوريا يبدأ امتحاننا لكنني مبكرا وصلت إلى المدرسة التي سنقدم فيها الامتحان كان البرنامج مكتوبا على كرتونة كبيرة والمادة الأولى هي العلوم ’ نعم العلوم خمسمئة وخمس وستون صفحة تجب مراجعتها خلال ساعتين ، كيف لي أن أراجع كل كتاب العلوم ولا أعرف ما إذا وصلت أمي إلى القرية بسلام كان إحساس بالذنب يلسعني بسياطه بل ينهش داخلي كذئب جائع في ليلة شتاء باردة .
كانت خديجة قد بدأت رحلة العودة إلى رشي والدموع التي ودعت بها شفيق قد رسمت على وجنتيها مجريين لنَهرَيْ ملح جافّين لكنها وهي تخطو خطواتها الأولى في رحلة الرجوع بدأت تشعر بدوار الجوع و الإرهاق ‘ والقهر ،خديجة التي تحمل في أحشائها جنينا دخل شهره السابع وأثقل عليها في كل حركة رغم مكابرتها الشديدة أمام بعلها وابن مهجتها شفيق بدأت مشيتها تترنح وهي تسير بقوة على الطريق المعبدة المتوهجة المتجهة نحو أبو قبيس فالريح العاتية بدأت تدفعها نحو الخلف فتحني ظهرها قليلا وتتقدم بثقة لكنّ شمس العصر جعلتها ترفع يدها اليسرى لتتقي بها أشعتها الحارقة دون جدوى
خديجة على الطريق بحملها الثقيل وخدر الجوع الذي راح يتسرب في أوصالها تواجه في لحظة واحدة الرياح القوية وشمس آب اللاهبة.
نزلت إلى الطريق الترابيّ الأقل توهجا وهمّت السير باندفاعة قويّة فارتسمت خلفها عباءة ترابية حمراء راحت تتأرجح حولها وتتشتت أطرافها بسرعة رهيبة.
_ لو كنت أملك المال لاشتريت بعض (المشبّك) أستقوي به على جنون الريح وحنش الجوع الذي يضرب أمعائي.
تتلفّت خلفها لعلّ سيارة تعبر فتنقلها لمكان قريب من مبتغاها أو(طبطاباً )أو حتى عابرا على دابة ! لا شيء خلفها والدرب طويلة أمامها كحبال الهواء صعب أن تدرك فتمسك.
-- أيكون شفيق قد وصل حماة، لابدّ أنه جائع الآن لن يأكل قبل أن يفتح كتبه ويقرأ حتى يكتفي وأنا لن آكل حتى يأكل هو لقد وضعت له بيضا مسلوقا وحبات من البندورة، لو أن حبة واحدة معي لبلّت ريقي وروت عطشي
-- يا ربي هذه الطريق لا تنتهي، الدوخة بدأت تثقل رأسي. الجبل أمامي يدور مثل النورج على البيدر يدور يدور يدووو.
ترنّحت يمينا ويسارا فدفعتها هبّة قويّة فتعثرت قدمها وسقطت فتدحرجت على أشواك الدردار التي تغطي أطراف الطريق ومرّت دقائق قليلة قبل أن تنهض ودون أن تدرك ماذا جرى معها تماما فغذّت السير من جديد لكن العطش بدأ يتسلل من جوفها إلى حلقها وينتشر في كل أصقاع جسدها فجفّ لسانها حتى باتت لا تستطيع قول كلمة.
نظرتْ ثانية إلى الخلف تل سلحب بعيد يموج الهجير فوقه وحوله فلا أُنس يسير خلفها ولا وحش تستأنس به فتشكو عطشها ولا طير يمرّ فوقها فيظللها لو لثانية واحدة يمرّ فيرفع عنها سياط الشمس التي لا ترحم ولا بيت تأوي إليه والدرب مازالت بعيدة ، بعيدة.
وتجدّ السير من جديد مازال أمامها الكثير حتى تصل الجبل فإذا وصلت تحتاج ساعة على الأقل سيرا حثيثا في الشعاب التي انحدرت عليها في الصباح
وفجأة تهبّ عاصفة هائجة فتدفع بها إلى الخلف عدة أمتار فتتأرجح من جديد وتسقط على الأرض وتتدحرج من جديد لتشج جبينها الأشقر المتعب المترب حجرةٌ كبيرة مدببة.
ونهضتْ من جديد وهي لا تصدق ما يجري
_ كنت أعمل في ركش القطن وأنا حامل طيلة النهار لم تخنّي أقدامي وما نهشني الجوع وأعود نهاية اليوم إلى رشي لأرشق على وجهي حفنتين من الماء فيزول التعب وأستعيد الروح والنشاط.
صعدت التلّة الحمراء الجرداء إلا من الصخور المتركبة على طرفيّ الطريق قبل الوصول إلى مدخل الجبل كانت تسير كالّذي يتسلّق على حبل فتتّكئ على كل الصخور المجاورة للطريق تشدّ الصخرة بكلتا يديها وتدفع بجسدها المتهالك نحو الأمام صاعدة زاحفة كغزالة جريحة طريدة في بلاد غريبة، كأنها ترى الطريق للمرة الأولى وهذه الصخور للمرة الأولى كان الدم الجافّ قد غطى جبينها ومجريي الملح فوق وجنتيها وبدت عيناها بحيرتين صغيرتين في صحراء نسيها الزمن.
رشي بعيدة جدا لكنّ السماء قريبة تموج وتدور حتى الصخور تدور، الطريق والغيوم كل شيء يدور أمسكت الصخرة بكلتا يديها نظرت إلى الأرض بين قدميها، والأرض تدور وخديجة تدور كفراشة مضرجة بالضياع رفّت بجناحين خفيفين وما زالت تدور خفيفة هذه المرّة كظلّ غيمة من أكوم القطن المندوف دارت بخفتها ورفّت بجناحيّ يمامة أعماها العطش ، حامت حول رشي ثم حول (الرامة) وغاصت في قاعه لتذوب في كلّ قطرة من قطراته .
أما جسد خديجة المسجّى فقد تهاوى على الطريق مضرّجا بالاغتراب كان فمها جافا متربا ويداها تقبضان على الريح أما بطنها الكبير فبدا أكبر من ذي قبل وليس فيه ما يدلّ على حياة
قبل الغروب كان جسدها المحمول بنعش من خشبيتين وحبل مجدول من شعر الماعز يضع رحاله عن أكتاف وأكفّ رجال وفتيان القرية الذين هبّوا لنقل جسدها المتسربل بدم جاف وبارد في هذا القيظ الشديد، وعلى دكة في البيت المبنيّ من الحجر والطين تمّ ركنه بهدوء، تلك واحدة من الطقوس، جاؤوا بجسدها المهدود ليودّع البيت الذي شهد فرحها وحزنها وترعرع فيه أولادها وكبرت فيه أحلامها بهم
تنادى فتيان القرية وأسرعوا لشقّ صدر الأرض بغية دفنها قبل حلول العتمة
أما الشيخ فتنحنح معلناً: إكرام الميت دفنه ويجب الدفن بسرعة في الصيف
قال أبو غليون صاحب الدراجة:
-- رأيتها ميتة قرب الطريق يا أسافة يا أم شفيق قبل كم ساعة وصلتها لسلحب مع ابنها ما كان فيها علة الدهر.
ردّ أحد الرجال:
-- لو أخذتها إلى الطبيب ربما أنقذها.
-- كانت ميتة ، أظنها وقعت من العطش فأصيب رأسها
كان أبو شفيق غارقا في التفكير والحيرة وقد لفّ (حطاطة) على رأسه يمسح بأحد طرفيها عينيه الوادعتين الغارقتين بالدموع ثم قال:
_أمّ شفيق قوية صبورة لا أصدق أنها ماتت، كيف للعطش أن يقتل عود السنديان أم شفيق سنديانة البيت!؟أمّ شفيق سنديانة رشي!!
أجهش بالبكاء واندفع بقوة نحو الرامة القريبة وسار خلفه ومعه عدد من الرجال والأولاد وهم يرددون:
_ بدها صبر يا أبو شفيق قَدَرُ الله وتمْ
وصل الرجل الرامة التي كانت قبل الزمان، ورأى الريح ترسم زوبعة على وجهها المتماوج فانحنى كأنّه في صلاة وملأ قبضة يده من الطين الأحمر وراح يكوّره بكلتا يديه ثمّ عاد مسرعا وكاد الطين الأحمر المتكوّر يسبقه إلى مرقد زوجته حيث تجمعت حولها نسوة القرية ينشدن أبياتا من العتابا الحزينة المتداولة، فأفسحن له.
لم يكن أبو شفيق يصدّق أنها ماتت فهي لم تكمل مهمتها لم تنجب حملها ولم يكبر الأولاد بعد ويسرّ لنفسه:
_ لن تتركني خديجة وحيدا
انحنى على جبينها فقبله أمسك بيسراه يمناها وبيمينه قرّب كرة الطين من أنفها وكرر ذلك عشرات المرات دون كلل أو ملل وهو يدمدم بتهدّج مالا يفهم من القول غير كلمة_ يا رب _وحدها تظهر مفخّمة وكأنه يلفظها دون غيرها بإجلال.
رائحة الطين تعبق في المكان بل تتغلب على روائح التعرق من الأجساد المتعبة المحيطة بها
وفي لحظة سُمع صوت شهقة خفيفة تشبه مواء قطة ولود، لم يصدق أحد في البداية أنها صدرت عنها تكورت الدّهشة في عيون النساء وخرجت من حلوقهنّ شهقاتهن تشبه أنين شجرة التوت وهي تنوء بقوة الرياح العاتية، زغردت أم حبيب وجاوبتها أم عليّ ، اختلطت دموع الحزن بالفرح كما اختلط الماء بالطين و كما ينداح العطر في الورد الجوري المعرّش على الأبواب المتعبة .
عاشت خديجة وهبتها (رامة رشي) الحياة من جديد .






الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://albaylasan.yoo7.com
 
الحرب و البيادر
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
البيـــــــــلســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان :: الفئة الأولى :: القصص و الروايات-
انتقل الى: