ا
لطريق إلى الرويسة
المطر في قريتي ليس كالمطر في أيّ مكان آخر هنا يستمر هجوم السماء أسبوعا متواصلا لا يكاد خيطُها ينقطعُ
وفي قلب كانون حين يتزاحم الغيمُ الأسود المندفع بقوة متسلقا سفوح الجبال الحادة تشعر دائما أنّ الليلَ قريبٌ منك يحيط بك يكاد يهبط على قلبك .
مدفأة الحطب الجسرية كانت محور حياتنا تبثّ الحياة في أحلامنا الصغيرة
كان والدي يملؤها بحطب السنديان الذي لم يجفّ كفاية ثم يترك بابها مفتوحا فيتدفق دخانها الأبيض من كل فتحاتها ثم يملأ الدخان كل أرجاء البيت ،ثم يخرج كيس (التبغ) ويفرد وريقاته المتوسطة الحجم و يشم رائحتها ليتحسس ما إذا قد ترطبت ثم يشم ثانية ويقول وهو يشحذ السكين: متل الورد بس خفاف شوي .
أترك والدي مع أحلامه بتبغ أثقل ومنفعة من دخنة الحطب وأتسلل صاعداً سفح الجبل نحو الرويسة القرية العامرة بالحياة والسهر والألفة ببيوتها المبنية من الحجر والطين
لم يكن ثمة طريق حقيقية كان شِعبا يتلوّى فوق صخور ويلتف بين الأشجار الحراجية وينطرح خلف ربوة ثم ينحدر في مجرى نهر و نهر آخر ويهوي بشدة نحو وادٍ سحيق فيضيقُ في سفح المنحدر حتى لم يعدْ يتسع لقدمين ويصعد ثانية وحيثما تنظر بعدها لا ترى غير الأدغال الكثيفة و صوت الماء حولك ،أمامك وخلفك ومن فوق ومن تحت ونهرٌ في أسفل الوادي وزخاتُ المطر تبلل الروح قبل الجسد.
كنت أسأل نفسي لماذا أصبح السهر في الرويسة إدمانا لا يمكنني التخلص منه؟
كنت أمرّ على معظم بيوت القرية الوديعة ولكنّ سهرتي في بيت سهيلة الشابة المرغوبة من الجميع والمحبوبة من معظم شباب الضيعة.
أهل سهيلة مضيافون فبيتهم الواسع وحسن استقبالهم وبشاشةُ سهيلة ومدفأتهم قليلةُ الدخان كل ذلك يجعل للمتة طعمٌ آخر وللفوز بالطرنيب نشوةُ النجاح الحقيقي .
متعةٌ لا مثيل لها لا يقطعها إلا البدء بالتثاؤب من بعض أفراد الأسرة وخلال وقت قصير نودّع ونتفرق، وأتلاشى وحيدا في عتمة كانون وأدغال الطريق.
وفي العودة غالبا ما أسلك الطريق الأبعد ولكنها أسهل قليلا فبيتي يبعد حوالي ربع ساعة من المسير السريع.
الظلام مطبق على كل شيء وعتمة كانون تلفّني تغلّني تحت جناحيها فأندسّ بين مائها ومطرها اللازبِ وبعد دقائق قليلة نتوحد أنا و المطر و ثيابي الغرقى فأنحدر نحو بيتي في خفة .
لم أكن أرى أمامي متراً واحداً ولكنني كنت أتحرك بسرعة من يسير في النهار وخاصة حين أصبح في قلب الأدغال وأشعر بالخوف يتسرب إلى قلبي مع المطر المتواصل ثم يزداد الخوف وتزداد دقات قلبي كلما دخلت في أجمة جديدة ثم أبدأ بالتعوذ وذكر أسماء الأولياء والمقامات الكثيرة التي تغطي قبابها المنطقة:
يا شيخ حمزة يا شيخ مبارك, يا شيخ علي ,
وكنت عندما أقترب من البيت أنسى المقامات وأرفع صوتي بغناء نشاز بهدف أن ينتبهَ كلبُنا لقدومي فينبحَ أو يسرعَ نحوي كما يفعل في بعض الأحيان.
في إحدى تلك الليالي انحدرت في وادٍ يمرّ فيه نهر شتوي تكثر فيه أشجار الدفلى الكثيفة وكان الخوف قد تمكن مني وكنت أضرب الأرض بقوة لأتغلب على الخوف ولأقنع أيّ وحش قريب أنني قوي تهتزّ الأرض لخطواتي وكنت وصلت في ذكر الأولياء إلى (الشيخ عبد الله ) حين سمعتُ حركة قويةً على بعد أمتار قليلة مني
كانت حركة توحي بوحش ضخم .
وقف شعر رأسي، وضعت يدي فوق شعري المبلل فوجدته مسترسلا،ثم بدأت أشعر أني لا أملك صوتا لأتنحنح أو أصرخ ، جلست القرفصاء ورحتُ أرقب الأدغال و بي شعور أن قدميّ وساقيّ من رماد .
متر أو متران فقط هو ما يمكن أن ألمح فيه شيئا فأصخت السمع لا شيء غيرُ صوت الماء في كل مكان وفجأة وبدون إنذار أو أمر مني انطلقت قدماي بسرعة البرق ووجدت نفسي أندفع في الطريق النازل بقوة حصان بري منجرد خلف أنثاه.
أي وحش سينال مني ـ قلتُ في سرّي ـ ؟هيهات فسرعتي تجاوزت سرعة الصوت وفي مرحلة من المراحل طارت قدماي فعلا فوق الجفينات الصغيرة طيرانا حقيقيا وعندما عبرت فوق الهوّارة الرمليّة لم تلامس قدماي الأرض أبداً .
اقتربت من البيت فنبح الكلب بصوت مذعور وراح يركض هو الآخر وتمالكت قليلا أمام البيت ، الضوء خافت جدا هكذا يبدو من شقوق الباب الخشبي ،
ناموا جميعا الحمد لله حركت المزلاج من فتحة في الباب واندفعت نحو فراشي الممدود خلف عنبر الحنطة ودسست نفسي تحت لحاف صوفي ثقيل.
لم أنم تلك الليلة فأوراق السنديان قد ملأت صدري وثيابي المبللة لم أجرؤ على خلعها,.
كانت ليلة ليلاء, قررت فيها مئة مرة ألاّ أسهر في الرويسة وأخذت على نفسي العهود والمواثيق .
ولكن ما إن عدت من الثانوية التي تبعد ساعة من المسير عبر غابات البلوط الكثيفة والتي تمر ّبين المزارات حتى بدأت أتحلل من العهود التي أخذتها على نفسي
كلما وصلت قرب مزار أستسمحُهُ في العهدُ الذي قطعتُه لهُ
وبدأت أرتّب خطة للإيقاع بالوحش فأغدو بطلا في نظر (سهيلة ) كنت أملك بندقية صيد تركية قديمة و علبة خرطوش و اشتريت بطاريتين ماركة (برق) لزوم البيل ثمّ انتظرت حتى خيّم الظلام على كل شيء كانت السماء قد توقفتْ عن الهطل ولكنّ ضبابا كثيفا بارداً راح يتمدد من الأعلى باتجاه السهل ، تسحَبت من البيت وأنا أسترجع في ذاكرتي يوما مماثلا لم تكن السماء تمطر كانت (سهيلة )تنتظرني على الطرف الغربي للقرية قرب أجمة من السنديان التي التفّت عليها نباتات متسلقة بكثافة حتى أصبحت شبيهة بالخيمة الخضراء سألتها:
- ولك سهيلا مانك فزعاني ،فردّت بسرعة
ـ شحاري من شو بدي افزع ؟؟؟؟؟
فأمسكت يدها
_ سهيلا بدي بوسي فسحبت يدها بقوة :
الله يقطعك يا مجنون في حدا بيشحد بوسي ؟
لازم تاخدها غصباً عني .
-بخاف تزعلي
- أي والله بزعل يا مجنون ... هلق ملاقيلك بهالليل تصلي وراك ركعتين ما ؟؟؟؟.
لابدّ أنها تنتظرني الآن في نفس المكان سأغتصب منها قبلة مثل تلك التي شاهدتها في الفيلم المصري .
أخذتني الذاكرة وتلوّت أحلامي في ثنيات الزمن لأنتبه فجأة وقد صرت قريبا من المكان الذي أحسست فيه بالوحش وشعرت بالخوف يجتاحني بقوّة فالمنازلة ستبدأ بعد ثوان قليلة .
فلابد أن الوحش مقيم هنا إنه ضبع بالتأكيد ,
وضعت خرطوشة ثم قمت بتثبيت البيل على البندقية القديمة والتي بدت لي شيئا حميميا محبوبا وتركت الضوء مطفأ وبدأت أقتر ب بخطوات حذرة حاولتُ ألا تصدر عني أيّةُ جَلبة وفجأة ركض أمامي شيء ما بحركة قوية ، فشددتُ الزناد وقصف رعد البندقية القديمة
أصابني الذهول عندما صرت أسمع عشرات الوحوش تركض مبتعدة عني فوضعت خرطوشة ثانية ودوّى الرعد من جديد تدافع خِدر الخوف إلى كلّ أوصال جسدي .
أيّ جنون وأية هستيريا تتدافع حولي وتذكرت البيل فغمزت زرها وصوبت بؤرة الضوء على أقرب وحش
يا للهول.
إنّـه عكش بلديّ ثم أدرت الضوء في أكثر من اتجاه إنها أبقار الضيعة .
يااا خيبتي كيف نسيت أن أبقار الضيعة التي لا تحلِبُ والعجول البلدية نادراً ما تنام في الحظائر وأنها تنتشر في الليل لترعى من الأحراش آخ يا رأسي.....
بدأ يجتاحني صداع كقصف بندقيتي القديمة وقررت سأركض خلف العجل لأعرف إن أصبته أم لا.
ومرة ثانية انطلقت قدماي خلف العجل الذي طار صوابه هو الآخر فاندفع أمامي بسرعة البرق متجها نحو الوادي وراح يركض بحركة لولبية
و لكنّ حركاتِه التكتيكية لم تمنعني من الاقتراب منه بالقدر الذي سمح لي بتفحصه فلم أشاهد أيّ أثر للإصابة ، توقفت عن المطاردة كان بنطالي الخاكي قد توحّل وتخلّع كعب حذائي أمّا قميصي فيه شقّ بطول فتر على الأقل هنا فوق صدري من جهة هذا القلب المسكون ...بالخوف... والخيبات ... والحب، و الهزائم المبكرة .