جمال الطرابلسي Admin
عدد المساهمات : 228 تاريخ التسجيل : 10/11/2010
| موضوع: لماذا كان طموح جلجامش أكبر من هواجس عشتار ؟ بقلم د وجد الصايغ الثلاثاء أبريل 12, 2011 8:56 pm | |
| لماذا كان طموح جلجامش أكبر من هواجس عشتار ؟ قال لها: أنتِ كالباب الخلفي لا يصد عاصفة تعد ملحمة جلجامش واحدة من أبرز الأعمال الأدبية الخالدة بما تزخر به من رموز مسكونة باستشراف أحلام الإنسان وقادرة علي الإيماء الي الأسئلة الأولي التي دارت في خلده وأقضت مضجعة وباغتت فراديس استقراره. فقد كان طموح جلجامش أكبر من هواجس عشتار، إذ لم يشأ أن ينهي.. مغامراته البطولية بالاقتران بها، ولم تفلح هي بكل حضورها المترع بالأنوثة الرامزة للحياة بوجهيها أن تلفت أنظاره اليها، لإن جلجامش كان يعي نزقها وأطوارها المتقلبة لذلك فإنه طالما نظرَ بازدراء الي توسلاتها وسخر منها مذكراً إياها بمصائر عشاقها وضحاياها الذين أنساقوا وراء فتنتها واحترقوا بهشيم وعودها إذ يقول لها زاجراً: أيّ خير سأناله لو أخذتك (زوجة)؟/أنتِ! ما أنتِ إلا الموقد الذي تخمد ناره في البرد/ أنت كالباب الخلفي لا يصد ريحاً ولا عاصفة/ أنتِ قصرُ يتحطم داخله الأبطال/... أنت قبر يلوث من يحمله/ أنتِ قربة تبلل حاملها/أنتِ حجر مرمر ينهار جداره؟/ أنتِ نعلُ يقرص قدم منتعلهِ/ أي عشاقك من أحببته علي الدوام؟/ وأيُ من رعاتك من أرضاك دائماً؟/ تعالي أقصّ عليك (مآسي) عشاقك.... ويتأكد تماهي (عشتار/ الأنثي اللعوب) بفضاءات الحياة في أسطورة أخري تتلبث عند مأساة تموز احد عشاق عشتار وهي تومئ الي تعاقب الفصول وفق ثنائية (الخصب/ الجدب) هذه التعاقبية التي خلقتها فطرة عشتار النزقة وسعيها للتضحية ببعلها (تموز) رديف الربيع من أجل أن تستمر هي متألقة الي ما شاء الله. ويقف في الجانب الآخر من هذه الملحمة (انكيدو) رفيق وحوش البر وانيسها حيث يعشق (شمخة) هذه المرأة التي حلت المعرفة في أهابها فيبتهج بحضورها المباغت في عالمهِ المسكون بالبدائية، ويقوده ليتجه بكينونته الجديدة صوب الحضارة (مدينة أوروك) يومذاك وقد شكر (انكيدو) أول مرة لتلك (المرأة) براعتها في أن تهب الحياة طعماً مدهشاً بيد أنه عاد لاحقاً وشتمها حين أحس بأن هذا الوعي المعرفي الذي اكتسبه قد غدا جزءاً من عذاباته، فناحَ وبكي حين تذكر عفوية حياة الغاب ولذتها في الابتعاد عن أجواء العقل ومكابداته إذ يقول لاعنا إياها: تعالي أيتها (المرأة) أقدر لكِ مصيرك/سألعنك لعنه كبري/ستحل بكِ لعناتي في الحال/لن تستطيعي أن تبني بيتاً يليق بجمالك/ليكن أكلُك من فضلات المدينة/ستكون زوايا الدروب المظلمة مأواكِ/وفي ظل الجدار سيكون وقوفك/وسيلطم السكران والصاحي خدك... . لكن هذا الكلام لم يرق ل (شمش) فناداه معاتباً اياه علي نكرانه الجميل حين قالك علام تلعن (هذه المرأة) يا أنكيدو؟/ تلك التي علمتك كيف يؤكل الخبز/ وسقتك شراباً يليق بسمة الملوكية/ وألبستك الحلل الفاخرة/وأعطتك جلجامش الوسيم خلا وصاحباً/أفلم يجعلك جلجامش، خلك وأخوك/تنام علي الفراش الوثير/أجل أنه جعلك تنام علي سرير الشرف....../ولما سمع أنكيدو (شمش) البطل، هدأت سورة غضبه . ويلتقي (انكيدو) في خضم هذا التنامي في شخصيته ب (جلجامش) وفي أجواء تنسجها الملحمة بأسلوب شعري تشع منه حرارة الاحتدام، وعنف الصراع المفضي الي اتّساق في الرؤي وصداقة ابدية تباركها أم جلجامش (ننسون) تجعلهما يتآزران في ردع قوي الشر المتمثلة في وحش غابات الأرز وحارسها (خمبابا) ويتم له النصر، بيد أن نشوة الفوز تتلاشي بموت أنكيدو هذا الحدث المباغت الذي ينحو بأحداث الملحمة باتجاه جديد إذ يتهافت صبر جلجامش العظيم إزاء تلك الفجيعة فيبرز نائحاً مزمجراً بيد أنه يلبس إهابا آخر يناقش عبره فلسفة الإنسان الأول للحياة وبأسلوب يتسق وطفولة العقل البشري حينذاك أي قبل ما يقارب من خمسين قرناً فيصر علي معرفة كنهها ولكي يزيل غبار الحيرة عن كاهله، فإنه يشد الرحال الي أرض أتونا بشتم الخالد. ويرسم لنا متخيل الملحمة ملامح امرأة أخري تبدو علي النقيض تماماً من شخصية عشتار، وأن بدت في إطار الرقم الطينية اقل شأناً منها واهمية وخطراً، أنها امرأة من عامة الناس لكنها تعرف السبيل الي ارض اتونبشتم يسعي اليها جلجامش عبر رحلته المنشودة وإذ تصفها الملحمة ب (صاحبة الحانة) فإن في ذلك مدلولاً رمزيّاً واسع المساحة وتفصح الملحمة عن كيفية ذلك اللقاء بما يأتي: سدوري صاحبة الحانة الساكنة عند ساحل البحر شاهدت جلجامش مقيلاً وكان لباسه من الجلود ووجهه أشعث كمن سافر سفراً طويلاً ويبدو عليه العناء والتعب.. فنظرت صاحبة الحانة الي جلجامش وناجت نفسها بهذه الكلمات: يبدو أن هذا الرجل قاتل فليت شعري الي أين يريد؟ فأوصدت بابها لما رأته يقترب وأحكمت غلقه بالمزلاج فسمع جلجامش صرير الباب فنادي صاحبة الحانة وقال: ما الذي أنكرت فيّ يا سدوري. حتي أوصدت بابك بوجهي وأحكمت غلقه بالمزلاج، لأحطمن بابك وأكسر المدخل . يوحي هذا المشهد المفعم بالصراع بين (انا) جلجامش البعيدة عن موارد الحكمة و(أنا) سدوري المتحصنة بأسوار الحيطة والحذر إزاء الآخر ولكن جلجامش حين يسرد تفاصيل فجيعته تقتنع صاحبة الحانة بأن هذا الرجل الأشعث الذي أنكرته لأول وهلة هو جلجامش العظيم ملك أوروك قد غيرت سحنته مأساة الفقد وحيرة السؤال عن أكسير الحياة والرغبة المحمومة في الوصول الي أرض أتونبشتم الخالد إذ يقول مجيباً علي تساؤلاتها: لقد أدرك مصير البشرية أخي الأصغر وخلي الذي أحببته حباً جما،......، إن النازلة التي حلت بصاحبي تقض مضجعي، آه! لقد غدا أنكيدو الذي أحببت تراباً، وانا سأضطجع مثله فلا أقوم أبد الآبدين. فيا صاحبة الحانة وأنا أنظر الي وجهك، أيكون في وسعي ألا أري الموت الذي اخشاه وأرهبه....... يا صاحبة الحانة اين الطريق الي أتونبشتم؟ دليني كيف أتجه اليه؟ فإذا أمكنني الوصول إليه فإنني سأعبر حتي البحار وإذا تعذّر الوصول اليه فسأهيم علي وجهي في الصحاري. فأجابته سدوري قائلة من منطلق وعيها بعبثّية مسعاه : الي أين تسعي يا جلجامش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجد..... و الموت قدر البشرية..... ثم تأملته وأضافت: أما انت يا جلجامش فليكن كرشك مليئاً علي الدوام وكن فرحاً مبتهجاً نهار مساء، واقم الأفراح في كل أيامك، وارقص والعب مساء نهار واجعل ثيابك نظيفة واغسل رأسك واستحم في الماء ودلل الصغير الذي يمسك بيدك واخرج الزوجة التي في بيتك فهذا هو نصيب البشرية. ويكاد قاريء الملحمة يسمع (أنا) جلجامش الهازئة بمقولة هذه المرأة التي رمزت للحكمة الانسانية، وهو يقول خارج رقم الملحمة الطينية أنا جلجامش الملك الذي لم يستجب لفتنة عشتار وجمالها، هل يعقل أن أصغي الي صوت سدوري ودعوتها المستكينة التي تبغي أن تثنيني عن عزمي في أن اصل الي سرّ جدّي القاصي (أتونبشتم) لعلّ هذا ما دار في خلد جلجامش وهو يحث السير ويوسع الخطي باتجاه سفينة الملاح (اورشنابي) التي ستقله الي أرض المجهول. بقلم: الدكتورة وجدان الصائغ
| |
|