كانت السماء تتشح بغيوم عقيقية تهرب مسرعة
نحو الشرق فيتمزق ردائها ملاحف حمراء
مزعزعة الأطراف
وتدوي ريح الصباح الباردة في الوادي فتخنق
هزيما كان يرجّ الصخور العاتية قبل قليل
وبعيدا في عراء البرية الولود بالحكايا
والألحان الشجية دغلة من عيسكون تحيط بحقل من أشواك القندريس والبلّان والخرّوب البريّ بثماره البنيّة
الجافة وعلى ساعد عوسجة عال وقفت عصفورة
صغيرة تزدهي بألونها المتآلفة المتماوجة
تغرد بصوت عذب حنون ودافئ صوت شذي كعطر
معتق في جرار الخلود رقيق كنسمة صيف باردة تنعش هذا المدى المترامي ....وظلت
العصفورة تفتنّ وتفتنّ ...تبحث بصوتها عن إلف
يقاسمها متعة الضياع في الحلم
في صباح غريب الأطوار وتحت رذاذ أشبه
بالندى سبقت كل العصافير وأعلنت عشقها الأبدي
كان ذلك الإلف قريبا دانيا كحبل الوريد
...يستمع ويذوب في شجو يشبه المستحيل......لكنّه ظل صامتا كتلك البراري التي تزخر
وتصهل بصمت ...أيضا ....وحانت رنوة من العصفورة ثم توقفت عن الغناء
*أنت هنا ياعصفوري الجميل
...؟؟؟؟
مالك لا تغني ..لم لا .......تسمعني عذب ألحانك
التي تعلمتها في الكروم....؟؟؟؟
الكروم ....؟؟؟
ـ وجداول الجبال ألم تأكل التين الأحمر هناك.......؟؟؟
ولكن ....
لا تتكلم كثيرا أسمعني فقط .....اسحرني اجعلني
أستمتع بغنائك ...ننتشي معا
وراح العصفور يزقزق ..نسي كل الألحان نسي
لغة العصافير .......أذهلته كلمات العصفورة الحلوة
أذهلته رقصاتها على أغصان الشوك وبين
وريقات شجيرات الوادي الساحر
فرد جناحيه وراح يرنّق فوق زعرورة
وطيئة..وقال :ما أجمل رقصة ذيلك الفضي وما
أبهى هذا المنقار الوردي خرج الصوت من منقارة الصغير الذي يشبه حبة قمح لفحتها شمس
الحقول......وراح يغرد لحنا تعلمه في الجبال
لكنّ الأغنية لم ترق للعصفورة ولم يعجبها
اللحن.....
ـ لا ليس هكذا أريد لصوتك أن يخرج من قلبك
الصغير يا عصفوري الجميل وليس من منقارك ...
أغمض عينيك وافتح قلبك وغرّد.......هيا
..أغغمض العصفور عينيه ورفع
حناحيه نحو الأعلى فصارا شراع سفينة تبحر نحو موطن الشمس
وراح يغني أغنية شجية تعلمها في زمن البرد
لم يرق اللحن للعصفورة أيضا ....وأرادت أن
تقاطعه لولا نغمة أشبه ببوح القصب تدفقت
من منقاره الصغير
شعرت خلالها العصفورة بزهو انتصار ....
ـ.أجل أجل هوذا اللحن الفريد الذي أحبه
ـ ولكنني ما كنت أغني كنت أبكي لقد دخلت
شوكة دردار في صدري
ـ ما أعذب هذا اللحن الجميل إنه يسحرني كم
أحب هذا
أطربت الكلمات العصفور فراح يبكي من جديد لكنّ هذا لم
يرق للعصفورة ...كان شجوا مصطنعا
تعال يا حبيبي
سأدلك على طريقة تجعلك تغني أعذب لحن
عرفته العصافير لحن يعجب كل إناث الطير .......
كيف.....؟؟؟
قف عل تلك الزعرورة العالية ...المطلّة
على الوادي السحيق........ وأنا سأنتظرك في أسفل الوادي قرب شويكة القندريس
....أغمض عينيك وافرد جناحيك وعليك أن تهتدي إليّ وأنا أغني وإياك إياك أن تفتح
عينيك سأكون في انتظارك فاردة جناحيّ الرقيقن الناعمين لأعانقك وأضمك إلى قلبي لقد
أحببتك وأريد التأكد أنّ قلبك دلّال يوصلك إليّ
ياحبيبي...............أريدك أن تهتدي إليّ بعيون قلبك ...لا بعيون رأسك
وقف العصفور الأسمر الصغير على شجرة
الزعرور وراحت العصفورة تعزف لحنا عذبا ترنحت منه البراري وسكرت الأغصان
وارتعش جسد العصفور الذي لم يتمالك نفسه
من شدة النشوة مدّ جناحيه فصارا شراعين متباعدين
دفع بصدره نحو الأمام ورد رأسه الصغير نحو الخلف قليلا أغمض عينيه فبدا أشبه ما يكون بسفينة فينيقة
تبحر في بحار المرجان الأحمر
وقفز إلى الوادي إلى مصدر الغناء الساحر
...وكانت العصفورة خلف شوكة عوسج بريّ
تتمادى شوكاته وتقف مثل حراب في فم
تمساح يتثائب
واستمرت في غنائها العذب وتبع العصفور
عيون قلبه كانت أصوات الريح تزمّ فمها فتعوي كذئاب جائعة تهرول في كل
اتجاه.........
بينما تنشد العصفورة بعذب صوتها قائلة:
تعال ياحبيبي أقبل إليّ بصدرك الجميل
الدافئ تعال وضمني أخرجني من برد روحي
لأغفو على وثير ريشك
وعانق العصفور غصن العوسج ذي الحراب
التماسحية الذي تغرد من خلفه العصفورة الصغيرة..........انغرست أسنان الشوك في
صدره...... رفّ جناحيه وراح .........يتأوّه بأعذب الألحان .........فانتفضت
العصفورة الجميلة سعيدة ....هو ذا اللحن
ياحبيبي.........أكمله أكمله.........مازالت الشوكة بعيدة عن قلبك
ونسي العصفور آلامه........واستمر
يغني لحنه الأخير لحن الموت الخالد سكنت
الريح لحظة ثم راحت تعوي في الوادي بنشيج يشبه صوت المزاريب ...........بللت قطرة
دم زهرة هندباء زرقاء قد نسأ الجفاف عمرها
بمنحة سماوية فأحنت رأسها ...المتوج
بالأحمر ...وقالت شكرا لك أيها العصفور لن
يغدو طعمي مرا بعد اليوم
شدت الأشجار رأسها نحو الأعلى مدت كفوف
أغصانها متضرعة متمايلة طربة .. وعلى أحد أغصان التين الريحي وقفت
العصفورة الجميلة ...تهتز طربا
ما أجمل صوتك ما أعذب هذا الغناء هو ذا
النبيذ الذي يسكرني
حين كانت السماء تتلون بالأحمر والغيوم
تأخذ لون العقيق
واستمر العصفور يغني أعذب لحن عرفته البراري واستمر النبيذ يسكر
العصفورة حتى وصلت الشوكة الى القلب فرف جناحه رفة قصيرة ومال عنقه وسكت منقاره
القمحي سكتة أبدية......................