كان ذلك خلال الاجتياح الصهيوني للبنان صيف 1982
كنت يومها طالبا في جامعة دمشق
وكان لي شرف المشاركة بجهد متواضع مع بعض الشباب
قبل سويعات كان صوتك يعلو
أكثر من هدير الدبابات ...صوتك الأجش يقرع
الآذان ...كنت تقف في وسط صندوق
السيارة وتمسك بيديك الشبك الحديدي ..أما لسانك فما أمسك لحظة واحدة
عن الكلام ....من أين جئت بكلّ هذا الصخب ..؟؟؟لقد
تكلمت نيابة عن كل المتواجدين فلم كان ذلك هناك ...؟؟؟ ولم أصابك الوجوم هنا.........؟؟؟
وجومٌ...؟؟؟؟
ليس وجوما يا صاحبي...إنه البرد
برد.....؟؟؟؟
أفي حزيران وفي وسط
النهار في هذا الجو اللاهب؟؟؟ حرائق الأحراج
والقصف المتواصل الممتد من راشيا الوادي حتى عنجر كل هذا وتقول برد .................؟؟؟؟؟؟
أدرت ظهري ثم أغمضت عينيّ
قليلا وتساءلت عمّا إذا كنت في حلم
....ليتني في حلم ...
ما لذي جاء بي إلى هنا..؟؟؟ هل قلّ الرجال هنا ...هذه الفرقة الأولى كلها تنتشر في هذه التلال ...وإلى
الجنوب يتموضع اللواء
الثامن والخمسون ...وأنت ما هو دورك ما ذا يمكن
أن تفعل هل ستردّ الجيش الصهيوني بهذه
البندقية ذات الأخمص الخشبي ...؟؟
حتى حلمك بامتلاك بندقية كلاشينكوف ذات أخمص مطوي لم
يتحقق أدرت ظهري للأسئلة التي لا تنتهي وفتحت عينيّ.... .
أصوات الانفجارات تمزق كلّ الأسئلة.... وتترك حقيقة واحدة فقط .....أنا في علم وليس
في حلم ....أنا هنا في لبنان .........في حزيران في حرّ الشمس اللاهبة ...أشعر
ببرد شديد برد راح يتسلل لروحي.........وبدا كلّ جسدي مدفونا في جليد
القطب ....وبدأت روحي تصعد من ظهري من أسفل العمود الفقري .....أجل من الفقرات القطنية هذه التي بدأت أشعر بأنها
ليست ثابتة فوق بعضها بل راحت تتفكك وتتحرك كل فقرة باتجاه ...هي الشيء الوحيد المتحرك في هذا الجسد الجليدي المتخشب ...حتى
ضربات قلبي توقفت ..أو هي إلى توقف ويحك ما لذي جاء بك إلى
هنا ..أما كان خير لك لو كنت الآن في مقصف الأرزوني المطل على بردى تشرب السينالكو
وتراقب عيناك كل بنات كلية الحقوق .والعلوم وكل العابرات
من وإلى ساحة البرامكة .. أما كان هذا أفضل لك من هذه الوجوه المتعبة
الكالحة الخائفة ......أيّ جنون ..هذا ياحنظلة ...؟؟؟
ألصقت جسدي المنحوت من خشب
الجليد على التراب الجاف في حفرة كبيرة تتسع لدبابتين ...هذا قبرك الواسع سينهال
عليك التراب والصخور بعد قليل وتدفن في أعماق هذه الأرض . ........لكنّ البرد لم يتوقف إنني أرتجف
....الحمد لله ها جسدي يتحرك ولو كان ارتجافا
جاء أبو معاوية أمين مسرعا ورمى بنفسه وراح ينزلق على مؤخرته وانتشر
غبار كثيف غطى وجهي فمددت يدي ومسحت التراب عن وجهي ....لقد أصبح موحلا .....أتصبب عرقا ...؟؟؟؟؟
شو في أمين ....؟؟؟؟
علينا مغادرة المكان القصف يستهدف الحُفر لا بدّ من مغادرة المكان
مغادرة المكان ؟؟؟......أنا بردان أمين .. أريد ان أبقى قليلا تحت الشمس
بردان ...ههههههههه أنت تتصبب عرقا يا حنظلة .....أنت خائف ...
لست خائفا .......أنا لا أخاف ....انظر كيف سأنهض وأنتصب مثل السرو في جبالنا ,ولن يمنعني القصف من ذلك ............
حاولت الوقوف فخانتني ركبتاي ..شعرت أنّ أمري سينكشف ويعرف الجميع كم أنا جبان ورعديد وخائف
أسندت الأخمص الخشبي على الأرض وغرزته قليلا
بالتراب واتكأت بقوة على سبطانة البندقية
وفي سرّي صرخت يا..إمام علي ...يا أبوالحسن
ونهضت واقفا قطعة واحدة ..كتمثال من خشب البلوط ...
ضحك أمين ثانية ... ياصاحبي بردت أكثر منك في يوم من الأيام ..
وخفت أكثر منك خلال اجتياح اليهود للجنوب في آذار قبل أربع سنوات
.لست خائفا أمين أنا لا أخاف ...سأخرج من الحفرة لترى بعينيك
..وصعدت منحدر الحفرة ..بدأ الجليد يتكسر سمعت حطامه
كحطام المرايا .وهسيس النار يذيب شظاياه..سمعت قلبي الذي توقف منذ دقائق يتدفق فيه ( نبع
المزوّق) الذي ينشد سيمفونية الحياة بين أدغال السنديان فوق مزار الأمير نجم قبضت يدايّ بقوّة على ذلك الشيء الحميم المسمى
بندقية روسية ...صعدت على صخرة كبيرة في مقدمة الحفرة رفعت هامتي عاليا و أطلت قامتي رفعت بندقيتي
ومن هناك شاهدت أشجار السرو الباسقة في أعلى عين الكروم
في أعتى الجروف عند قبة المغاوري امتدت قامتي فوق دخان القنابل والحرائق التي تحجب زرقة السماء وأبى جبيني المُترب إلا أن يدفأ بزرقة السماء من
هناك من حالق حالق شعرت بالدفء والقوة
السرمدية وناديت أمين بلهجته الفلسطينية
أميييييييييييييييييييين يااااااااا أميييييين
.............أمين ...
هيّاتا السما
هيّاتا
عين الكروم
هيّاتا