جمال الطرابلسي Admin
عدد المساهمات : 228 تاريخ التسجيل : 10/11/2010
| موضوع: الثغاء المقهور الإثنين مارس 07, 2022 1:53 pm | |
| الثغاء المقهور حين أوقدَ الشرقُ قرصَهُ اللاهبَ كان معروف يغذّ خطواته المتعبة الخائـفة، و ينهبُ الدرب الترابية الطويلة المتعرّجة بجوار نهر العاصي مغرّباً يسحبُ معزاتَــهُ مرّة و مرّةً يسيرُ خلفها بخطوتين تاركا لها (المرسة ) المعقودةَ عند عنقها بمدور حديدي صغير يداعب زَلمتيها الطويلتين المتراقصتين على وقـْع خطواتها السريعة ، بينما يتعفّر وجهه القلق المغضّن بغبار تنثره أظلافها الصغيرة القوية . لا أظنّ الوقّاف سيلحقُ بي، بل لن يعرفَ بهروبي من القرية حتى شروق الشمس وأنا حطّيتُ الله في وجهي مع صعود نجوم الثريا قبل انتصاف الليل، و إنْ لحق بي لن يتمكن من أخذ معزاتي الوحيدة و لن ترهبني بندقيته الطويلة, سأتمكن منه و أسحبها و أُقَنْطِرُهُ عن ظهر حمارته الصُّليبيّة. إنّه رجل بلا ناموس يردّدُ مثل البهبهان كلَّ ما يقولُه البيك و ينفّـذ كلّ رغباته حتى لو لم يطلبْها منه, يفهم عليه كما يفهم الكلبُ على صاحبه . لم يعدْ هناك ما أخشاهُ فزوجتي و ابنتاي صارتا في مأمن في ضيعة خالد بيك, خالد بيك قال لي :سيعطيني قبتين لأسكن فيهما واحدة لي و الثانية لمعزاتي و يعطيني البذار ووعدني ألا يجبرني على إرسال زوجتي إلى السّخرة في قصره وألا ينهبـَني إذا أمحلت الأرض سداداً للديون ، ووعدني إذا نجح في البرلمان أن يضمّني - للجماعة - و أن يخاطبني يا أخي ، أووف ما أكذب البيكاوات فهذا ما وعدني به رشاد بيك قبل سنتين أيضاً، أعرف أنّ كلامهم المعسول ليس سوى شراك حتى أشدّ عندهم جزءاً من أرضهم البور، لعنة الله عليهم لو كان دمهم بول كلاب لكانوا أكثر رحمة. كان رشاد بيك قد وعده نفسَ الوعود، نعم و أعطاه فور وصوله القرية ـ ربعية ـ حنطة حورانية صدقةَ حتى يقتاتَ بها و حين بدأ العمل أعطاهُ البذار و سجّلهُ عليه بسعر مضاعف ، ثم أرسله لعند حج فوزي قريب رشاد بيك وصاحب الدكان الوحيدة في القرية ، الذي أعطاه خمسين ليرة قرضة الله حسنة هكذا قال ،و هو يسجلها في دفتره الكبير بقلم الكوبيا بعد أن بلله بلعابه و سجل بجوارها كيلو صابون غار نجيب شاكر ب خمسين ليرة صار المجموع مئة ليرة و التفت يقول : الربا حرام و البيع حلال تفضل يا معروف هذا كيلو صابون من معمل نجيب شاكر أحسن صابون بحماة و كلّ سوريا . كان معروف يقبضُ الخمسين ليرة لأول مرّة في حياته فلم يهتم كثيراً بسعر الصابون الذي لم يكن يساوي أكثر من نصف ليرة، ففرحته و هو يتلمّس الورقة المالية لا توصف، و قرر أن يشتري من عنده تمراً أيضا و قميص شيت لزوجته و ينقده ثمنها من الخمسين , لكن ليس اليوم حتى لا يفقد متعة احتواء جيبه على قطعة ورقية حمراءَ كبيرة و مزخرفة بصورٍ محيّرةٍ. سنتان و أنا أعملُ في هذه الأرض، سقيتها دمي وعرق عافيتي ، حفرَتْ قبضةُ المنجل يدي و كَسرَ ظهري رجادُ غمارِ حصيدِها و ظهر زوجتي أيضاً حتى أنّ رشاد الكلب لم يسمح لجاري أبي عدنان أن يعيرني دابته ليخفف عنّي ، وعشّش غبارُ العورِ في حلقي و صدري ُ و أنا أذرّي دريسها ، كان الذباب يأكل العيون الجميلة لابنتي أكثر ما يأكل الجوع أمعائها و هي مرمية في القبّة تنتظر رجوع أمّها ورجوعي يا الله ماذا جنيت ..؟؟ ليس لي غيرُك في شدّتي يا أرحم الراحمين. لقد صار (صابور) الحنطة كله للبيك بطرفة عين ويريد أخذ المعزاة الوحيدة تسديدا للديون وحتى ربعية القمح التي تصدق بها عليّ فور وصولي لعنده احتسبها من الديون. أي بشر، أية دنيا هذه ؟ كان معروف مسترسلا في استرجاع آلامه ويسرح في فضاءات القهر والأمل بوصول آمن لقرية خالد بيك عندما فاجأه خيّالان من الدرك قادمان بعكس مسيره فاستيقظ من شروده وقد أجفل قلبه: - التلاقي!! - هنا في في هذه الدرب المقفرة؟ إنّه أبو محمد الشركسي رئيس مخفر أمّ تلّيْن صديق البيك ! لكن لن يؤذيني و هو لا يعرفني ، لابد أنهما ذاهبان لضيعة رشاد بيك و سيخبران عني و أكون قد وصلت ب سلام لمقصدي. لم يكن حدسُ معروف صائباً فاستوقفاه بصوتٍ صارمٍ من أحدِهما فجاء صاعقاً كالسيف : ــ حرامي ولاك، وقّف عندك. نظر إليهما بعينين متعبتين مكسورتين ، كانا يحيطان به كأنكر و نكير ـــ’ لا والله يا أفندينا هالعنزة رزقي الحلال. ــ هات رخصة وَلَك، ــ رخصة شو يا أفندينا و الله هي عنزتي, و أمسك معروف مرسة المعزاة و لفّها على يده ــ ولك رخصة يعني مصاري يا حرامي ـ ما معي مصاري يا أفندي ، منين المصاري ؟؟، . لم يتم الجملة الأخيرة حتى انهالت السياط، على رأسه و يدِه التي تمسك بحبلة المعزاة ’ كان الضرب شديداً مُبرحا و هما يكرران حرامي وَلَك حرامي . و استمرّا بالضرب حتى تفلّـتت الحبلة من يده و راح يترنّح و يدورُ حول الغيوم ، دارت السماء و التمعت فيها بعض النجوم ثم أظلمت و دارت الأرض تحته ثمّ سقطت بكاملها فوق رأسه دفعة واحدة ، فقعد على مؤخرته و يداه فوق رأسه فاقداً القدرة على النهوض أو حتى تكرار جملة ماني حرامي . ترجّل أحد الدركيين فعجّ الغبار من تحت قدميه وتأوهت الحصى الصغيرة من وقع حذائه ذي العقب الحديدية ثم أمسك بمرسة المعزاة التي وقفت مذهولة مما يجري وهي تثغو ثغاء مستغيث مؤااااء مأآآآآء مأاااء . ظلّت يدا معروف فوق رأسه كي يدفع عنها ضربا محتملاً وعيناه تُطرقان في الأرض. ــ قال رئيس المخفر الذي ظلّ على ظهر فرسه: ولك حرامي لص وما في رخصة يلعنك، وردد المترجل وهو يربط حبلة المعزاة بسرج دابته: ــ ما في رخصة، في عنزة يا ملعون. ابتعد الدركيان وظلت في رأس معروف أصوات السياط و وقع حوافر الخيل و لطمُ ذيولها المتأرجحة، وثغاءٌ مقهور يشبه العُواء مأآآآآء مأاااء .
الثغاء المقهور الجزء الثاني
على ضفة العاصي الذي يتلوّى برفق على تخوم قرية (حَدْية)ويتجه غربا صوب سهل الغاب وقف "معروف "يتأمل هذا الفضاء العجيب الذي ترسمه من الغرب جبال زرقاء مائلة للخضرة الدّاكنة بينما تنتصب في الشرق قلعة شيزر التي ترقد بتهالك فوق مرتقى صخريّ دهريّ ككتفيّ رجل ينوء بحمل ثقيل بينما يهيكل البناء الغربيّ وجه رجل عجوز يشبه وجه جدّه الذي قضى خلال تقدّم الحملة الفرنسية من مصياف إلى حماة وظلّ الرجلَ الذي تروي الحكاياتُ عنه بطولات عجيبة. وفي هذا الصمتٌ الكونيّ الشفيفٌ الموشّى بصوت القبّرات في الحقول الممتدة مدى العيون. يمعن معروف النظر في الكتفين العملاقين والوجه المتعب الغارق في الفضاء يا إلهي كم يشبه جدّي، إنّه جدي!! تماما كما وصفه أبي، هذا أنفه الكبير وتلك عيناه الصغيرتان وهذه ذقَنه وتلك الثنيّات على رقبته وهذا فمه يكاد ينطق. وفي لحظة من التأمل المُدله يتبدّد الصمت الكونيّ الرهيب بصوت يأتيه من كلّ الاتجاهات، صوتٍ يلتفّ حوله كعاصفة ويتسلل إلى فؤاده: - مجنون أنت؟ كيف تقبل أن تعمل وقّافا عند خالد بيك؟ هل نسيت ما كان يفعله وقّاف رشاد بيك بالفلاحين؟ كيف تقبل لنفسك أن تكون السّوط الذي يجلد أهلك وجيرانك كيف ترضى أن تشتمك قلوب أهل القرية وكلابهم ؟؟. لقد فرحت بالبندقية الطويلة التي تحملها لترهب أهلك!،ونسيت أنّ جدّك حمل مثلها ضد الفرنسيين!! لابدّ أنّه استدرجك ووعدك أن يضمّك إلى جماعته؟. نفض معروف رأسه وحرّك رقبته يمينا ويسارا فصوت جدّه خشن وقاس ولهجته أقسى من قدرته على الاحتمال. استمرّ في هزّ رأسه كأنما ينفض منه كلّ الكلمات التي دخلت فؤاده عبر عينيه ثم توقف وما لبث أن عاد صوت الجدّ متهكّما : أناداك في الاجتماع: أخي؟ هههه واقتنعت! فماذا قال لك المشرف؟ ألم يقل لك روّضِ الفلاحين وكنْ أمينا على مال وليّ نعمتك؟ وأن الله خلق البشر درجاتٍ و أنّ طاعة ربّ العمل من طاعة الله !! لابدّ أن الليرة الورقية التي دسّها في جيبك قبل دخولك غرفة الانتخابات قد فعلت فعلها ! وهنا انتفض معروف وزمجر في وجه جدّه الكبير المائل و المتهدّم من جهة الجنوب وصرخ: - لا والله لا، كنت أحتاج الليرة كثيرا فأخذتها لكنني أدخلت في الصندوق الورقة الأخرى التي دسها الأستاذ فرحان في جيبي ولم أفعل ما أراد البيك. ثم هدأ قليلا: لقد عدت من قرية أم تلّين منتوفا مثل زيغة أفلتت من مخالب شوحة كبيرة وبعد أن وصلت إلى هنا قال لي البيك: لقد تأخرت يومين عن المجيء فأعطيت الأرض التي وعدتك بها لغيرك ولكنني لن أردّك خائبا، لك عندي عملٌ يردّ عليك رزقا حلالا ويجعل الجميع يهابونك. يا معروف شكلك يوحي بأنك رجل شهم وصادق وأريدك وقّافا عندي، وأنا منذ شهرين بدون رجل قويّ يكون يداً وعونا لي على الفلاحين بعدما مات (عطيّة ) غرقا في العاصي. أنت غريب في هذه القرية لذلك خير لك أن تعمل معي فالناس هنا تكره الغريب فإذا كان ضعيفا وحيدا يجورون عليه، وعندي ستكون قويّا. ما كنت أريد أن أكون وقّافا تهابني الناس لكنّ سياط رئيس المخفر الشركسيّ مازالت تلسع رأسي وجسدي ثغاء معزاتي المقهور التي استولى عليها الدرك يرنّ صداه في أذني ويبدد روحي. أتعرف فرحانَ يا جدّي فرحان أستاذ المدرسة الذي يذهب إلى جامع القرية يصلي ولا يحضر خطبة الشيخ، يقول عنه البيك : فرحان زنديق وأخوه مقيم في بلاد الملحدين إنّه يحرّض الفلاحين كي لا يرسلوا نساءهم للسخرة في القصر؟ بل طلب منهم ألا يمتثلوا إذا قرر البيك أن يسجن أحدا منهم وأنّ القانون لا يسمح له بذلك. أتعرف سجن القرية يا جدي؟؟ إنه غرفة بلا سقف وبلا باب!! يوم أمس وبطلب من البيك حبست اثنين من الرجال رفضا إرسال نسائهم للسخرة حبستهم ليلة كاملة وحين عدت في الصباح لأفرج عنهم وجدتهم ينتظرون قدومي داخل الحبس الذي لا باب له. أدار أحد الفلاحين محركاً ضخما لضخّ المياه من العاصي فاختفى صوت جدّه الذي أطرق غاضبا ولم تعد تلوح له من المدى البعيد غير جدران متعالية فوق جبل مقطوع بخندق عظيم. كان معروف يشعر بأنّه لبس ثوبا غير ثوبه فعمله جعل بينه وبين العاملين في الحقول فجوة أكبر من ذلك الخندق الذي يفصل محردة عن شيزر وكأنه لم يعد ينتمي لهم ولا لأوجاعهم ولا لأفراحهم، زوجته تقول له: - لا تزورني غير أم محمود الأرملة لقد همست لي أنّ زوجها الوقّاف السابق لم يغرق، بل وجدوه مرميا في العاصي وشيخ القرية كفّنه بسرعة ودفنه بسرعة أكبر. كانت أمّ محمود امرأة فارعة قويّة بيضاء الوجه وهي الأكثر شبابا وصباوة في كلّ القرية وقبل أن يموت زوجها كانت تتكفل دائما بنقل صندوق العرس الممتلئ على رأسها مهما كان الصندوق كبيرا وثقيلا وتتوسط النسوة والصبايا وهي ترقص بينهنّ وترتجّ أردافها تحتّ (القَبْعة السوداء) بينما يهتزّ صدرها وخصرها الممتلئان بفائض إثارةً ترتشفها عيون النساء المتحلّقات حولها ويضربْنَ المثل بحيويتها وجمالها وقوّتها الفائقة. بعد وفاة زوجها طلب البيك من معروف إحضارها للقصر كي تعمل فيه وتؤمّن لأولادها لقمة عيشهم لكنها رفضت بشدة. لقد أخبر البيك أهل القرية أنّ أمّ محمود إنْ عملت عنده فسيعفي نساءَهم من السخرة وطلب منهم أن يمنعوها من (أن تسنبل) خلف الحاصدين أو تعمل (مفاعلة) في ركش القطن، حتى ترضخ لمطلبه. قسم كبير من أهل القرية تعاطف معها سرّا وقسم آخر تمنّى عليها أن تعمل في القصر لتعفى نساؤهم ولكنهم جميعا امتثلوا لرغبات صاحب الأرض ووليّ نعمتهم. أمّ محمود لم تعد تحمل صناديق الأعراس وصار همّها أن تربّي الحمام والدجاج في دارها الطينية ذات السور الطيني الوطيء وهي ترعى النعجتين المدرارتين على حوافّ نهر العاصي وهناك (تسلّق) بعض النباتات البريّة، وكثيرا ما كان بعض الفلاحين يرسلون لها سرّا شيئا مما تجود به حقولهم ويتغاضى عنه معروف كأنّه لم ير شيئا وهي من حين لآخر تجد الأنس بزيارة زوجة معروف لتحصل من عندها على فائض نعمة يحضرها معروف من القصر. الأيام تمرّ هنا مُتعَبة كئيبة متشابهة كنظيراتها من العام الماضي فالحبوب و المال و أكداس القطن تذهبُ إلى القصر ومعروف يقف على كلّ صغيرة وكبيرة وحين تتكوّم الأقماح على البيدر كان يحمل (الرشم) ويختم الصوابيرَ به كي يحفظ حقّ البيك وفي موسم القطن كان قلم (الكوبيا) بيده يسجل به وزن كلّ شلّ من الشلول المنتجة و المختومة بتوّامة من الخيش على فتحته الكبيرة . موسم العمل في الحقول في ذروته، المدرسة الوحيدة الصفّ في (حدية) أغلقت بابها وجميع الأولاد مع أهاليهم في هذه البريّة الواسعة، والأستاذ فرحان غادر القرية إلى مدينته حماة وقيل لن يعود إليها ثانية لأنّ البيك طلب أن ينقل إلى البادية. اليوم عاد معروف مبكرا إلى البيت مضطرب الفؤاد يسترجع الحوار الذي دار بينه وبين خالد بيك الذي كان يتجوّل على فرسه البيضاء على الطريق المؤدية إلى غابة (الطّرف): - هل مازالت أم محمود ترعى النعجتين في الغابة على جدار العاصي - اليوم عادتْ يا بيك، هي تبقى من الشروق ترعى وتسلّق الخبيزة حتى تمرّ سيارة البريد على الطريق فترجع لبيتها. - سمعت أنّ زوجتك تكرمها من رزقي ومالي، ارتبك معروف ولم يعرف بما يجيب - لا يا بيك هي تشتري منها الحليب وتدفع لها قيمته والمستورة أحيانا لا تأخذ مقابل ذلك - ومن أين المال الذي تدفعه زوجتك ؟؟أليس من عندي !!، هذه الأكتاف لولا المال الذي أكرمك به لكانت مجرد حطب يابس. - ولماذا عانقك فرحان بحرارة لمّا غادر القرية ؟؟ ما الذ بينك و بينه ؟ - إنه أستاذ (حلوة) ابنتي وكنت موجودا لاستلام الجلاء، لقد عانق كلّ الرجال. - كلّ الرجال!! هه هه ولكنك لست من الرجال أنت (زلمتي ) هل تفهم . ثمّ ماذا تفعل عند العاصي كلّ يوم وطريقك إلى البساتين من الجهة الغربية ؟؟ إياك أن أراك هنا مرة ثانية ، وحين همّ بالمغادرة وهو مطرق استوقفه ثانية: - سأرسلك غدا إلى الإخوة في حماة وأرسل بعض الهدايا بسيارة كرمو الحماش انتظره في بيتك ولا تخرج إلى الأراضي وبعد الظهر تعود معه - كما تريد يا بيك. كان ليلا طويلا لم يذق فيه معروف طعم النوم بينما تغط زوجته في نوم عميق وتندسّ ابنته الوحيدة في حضنه القلق فتمنعه من التقلّب. آه يا جدّي كم تمنّيت أن أرفع رأسي أمامه وأضعَ عينيّ في عينيه وأقول له: أنا رجلٌ، وأصفعه صفعة قويّة أسترجع بها بعض كرامتي إنه إحساس ثقيل بأمر جلل سيحدث له، لقد راودته فكرة أن البيك يريد التخلص منه هناك في حماة وسيتكفل الإخوة بالأمر، لقد سمع من الأستاذ فرحان أنّ للإخوة أمير ينفذون كلامه ولا يردون له طلبا. جدّه غاضب منه أيضا فمنذ سنتين لم يحدّثه ولا هو تجرّأ على النظر في وجهه المتعب الغاضب. ليت صباح الغد لا يأتي، وتبقى النجوم معلقة في كبد السماء وتبقى (حلوتي)تدّفئ صدري وتخفف عني هذا القلق والخوف الذي يعتريني. النهار تعبٌ وقهر ومذلّة، ليس من فرق كبير بين الليل والنهار في حياة الفقراء لكنّ الليل خير من مقابلة وجه الظالمين وظلمهم. أشرقت الشمس ولم تتأخر عن موعدها ونهضت الحياة وجلس أمام بيته على مصطبة حجرية ينتظر سيارة الحمّاش، التي تأخرت عن الموعد الذي أخبره به البيك، ارتفعت الشمس رمحاً ثمّ رمحا آخر، صعد على السلّم الخشبيّ إلى سطح المنزل المشرف على الطريق التي ستأتي منها السيارة، وضع كفّه فوق جبهته ليظلل عينه من أشعة الشمس القوية، لا أحد على الطريق الترابي ولا غبار لسيارة أو حتى (لعرباية) خضار عائدة من سوق الهال، أجال النظر شرقا فوقعت عيناه على وجه جدّه السامق في فضاءات ظليلة بغيمة بيضاء كبيرة أفقدته بعض ملامحه فأطرق خجلا منه وهمّ بالنزول لكنّ الصوت باغته: - لن يأتي كرمو الحمّاش ولن تنزل إلى المدينة ولا رسالة إلى الإخوة، كن رجلا يا معروف مرة واحدة في حياتك، أمّ محمود أكثر رجولة منك. أنا يا جدي رجل ولكن ... اسكت لا أريد سماع صوتك قبل أن تكون رجلا. نزل معروف سريعا عن سطح بيته الطينيّ وحمل البندقية (الزعيمية) ذات المكنظمة الحديدة السوداء اللامعة واتجه نحو القصر مسرعا لقد قرر ألا يكون زلمة بل رجلا، سأرمي البندقية لصاحبها وأعمل في مقطع الحجر كان باب القصر مغلقا والحصان ليس في مربطه، أين البيك؟ أيكون؟؟ والتمعت فكرة في رأسه ثم تجسدت أمامه حقيقة فأسرع نحو غابة الطرف الصغيرة وراحت قدماه تنهب الطريق نهبا وتطوي المسافة التي أحسّ بها طويلة على قربها، هو ذا الحصان مربوط إلى شجرة صفصاف في أول الغابة تقدّم بخطوات حثيثة وتعمّد ألا يصدر صوتا فسمع غمغمة وصوت عراك مشبوب بصوت نسائي يحزّ الفضاء كزئير لبوة تدفع عن أشبالها أيها الوغد خسئت لن تنال منّي. هذه الجملة سمعها بوضوح من خلف شجرة طرفاء كثيفة ولأول مرة في حياته يشعر أنّ البندقية شيء عظيم وهو يقفز كنمر خلف طريدة حمل البندقية بيساره وكانت اليمين تشدّ المكنظمة إلى الخلف وبحركة سريعة شدّ الزناد فقصف رعدّ قويّ خطوتان أيضا وقصف رعدّ آخر تلفّت نحو جدّه ورفع رأسه ليجد نفسه وجها لوجه مع البيك وهو يمسك أمّ محمود من الخلف وقد طار غطاء رأسها وتمزّقت قبعتها عند الرقبة. بعد دقائق كان عشرات الرجال من الفلاحين في الحقول المجاورة قد جمعهم صوت الرصاص ليجدوا البيك مربوطا من رقبته بمرسة غنمة أم محمود يجره أبو حلوة ويقول له: أبو أحمد الجربان سيأخذك بعربايته هدية إلى (جماعتك من الإخوة) هناك ولن نراك في هذه الأرض بعد اليوم.
| |
|